فصل: تفسير سورة الأعراف

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير السعدي المسمى بـ «تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان» **


‏[‏55 ـ 56‏]‏ ‏{‏ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ‏}

الدعاء يدخل فيه دعاء المسألة، ودعاء العبادة، فأمر بدعائه ‏{‏تَضَرُّعًا‏}‏ أي‏:‏ إلحاحا في المسألة، ودُءُوبا في العبادة، ‏{‏وَخُفْيَةً‏}‏ أي‏:‏ لا جهرا وعلانية، يخاف منه الرياء، بل خفية وإخلاصا للّه تعالى‏.‏

{‏إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ‏}‏ أي‏:‏ المتجاوزين للحد في كل الأمور، ومن الاعتداء كون العبد يسأل اللّه مسائل لا تصلح له، أو يتنطع في السؤال، أو يبالغ في رفع صوته بالدعاء، فكل هذا داخل في الاعتداء المنهي عنه‏.‏

{‏وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ‏}‏ بعمل المعاصي ‏{‏بَعْدَ إِصْلَاحِهَا‏}‏ بالطاعات، فإن المعاصي تفسد الأخلاق والأعمال والأرزاق، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ‏}‏ كما أن الطاعات تصلح بها الأخلاق، والأعمال، والأرزاق، وأحوال الدنيا والآخرة‏.‏

{‏وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا‏}‏ أي‏:‏ خوفا من عقابه، وطمعا في ثوابه، طمعا في قبولها، وخوفا من ردها، لا دعاء عبد مدل على ربه قد أعجبته نفسه، ونزل نفسه فوق منزلته، أو دعاء من هو غافل لاَهٍ‏.‏

وحاصل ما ذكر اللّه من آداب الدعاء‏:‏ الإخلاص فيه للّه وحده، لأن ذلك يتضمنه الخفية، وإخفاؤه وإسراره، وأن يكون القلب خائفا طامعا لا غافلا، ولا آمنا ولا غير مبال بالإجابة، وهذا من إحسان الدعاء، فإن الإحسان في كل عبادة بذل الجهد فيها، وأداؤها كاملة لا نقص فيها بوجه من الوجوه، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ في عبادة اللّه، المحسنين إلى عباد اللّه، فكلما كان العبد أكثر إحسانا، كان أقرب إلى رحمة ربه، وكان ربه قريبا منه برحمته، وفي هذا من الحث على الإحسان ما لا يخفى‏.‏

‏[‏57 ـ 58‏]‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ *وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ‏}

يبين تعالى أثرا من آثار قدرته، ونفحة من نفحات رحمته فقال‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ‏}‏ أي‏:‏ الرياح المبشرات بالغيث، التي تثيره بإذن اللّه من الأرض، فيستبشر الخلق برحمة اللّه، وترتاح لها قلوبهم قبل نزوله‏.‏

{‏حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ‏}‏ الرياح ‏{‏سَحَابًا ثِقَالًا‏}‏ قد أثاره بعضها، وألفه ريح أخرى، وألحقه ريح أخرى ‏{‏سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ‏}‏ قد كادت تهلك حيواناته، وكاد أهله أن ييأسوا من رحمة اللّه، ‏{‏فَأَنْزَلْنَا بِهِ‏}‏ أي‏:‏ بذلك البلد الميت ‏{‏الْمَاءُ‏}‏ الغزير من ذلك السحاب وسخر اللّه له ريحا تدره وتفرقه بإذن اللّه‏.‏

{‏فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ‏}‏ فأصبحوا مستبشرين برحمة اللّه، راتعين بخير اللّه، وقوله‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏}‏ أي‏:‏ كما أحيينا الأرض بعد موتها بالنبات، كذلك نخرج الموتى من قبورهم، بعد ما كانوا رفاتا متمزقين، وهذا استدلال واضح، فإنه لا فرق بين الأمرين، فمنكر البعث استبعادا له ـ مع أنه يرى ما هو نظيره ـ من باب العناد، وإنكار المحسوسات‏.‏

وفي هذا الحث على التذكر والتفكر في آلاء اللّه والنظر إليها بعين الاعتبار والاستدلال، لا بعين الغفلة والإهمال‏.‏

ثم ذكر تفاوت الأراضي، التي ينزل عليها المطر، فقال‏:‏ ‏{‏وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ‏}‏ أي‏:‏ طيب التربة والمادة، إذا نزل عليه مطر ‏{‏يَخْرُجُ نَبَاتُهُ‏}‏ الذي هو مستعد له ‏{‏بِإِذْنِ رَبِّهِ‏}‏ أي‏:‏ بإرادة اللّه ومشيئته، فليست الأسباب مستقلة بوجود الأشياء، حتى يأذن اللّه بذلك‏.‏

‏{‏وَالَّذِي خَبُثَ‏}‏ من الأراضي ‏{‏لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا‏}‏ أي‏:‏ إلا نباتا خاسا لا نفع فيه ولا بركة‏.‏

{‏كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ‏}‏ أي‏:‏ ننوعها ونبينها ونضرب فيها الأمثال ونسوقها لقوم يشكرون اللّه بالاعتراف بنعمه، والإقرار بها، وصرفها في مرضاة اللّه، فهم الذين ينتفعون بما فصل اللّه في كتابه من الأحكام والمطالب الإلهية، لأنهم يرونها من أكبر النعم الواصلة إليهم من ربهم، فيتلقونها مفتقرين إليها فرحين بها، فيتدبرونها ويتأملونها، فيبين لهم من معانيها بحسب استعدادهم، وهذا مثال للقلوب حين ينزل عليها الوحي الذي هو مادة الحياة، كما أن الغيث مادة الحيا، فإن القلوب الطيبة حين يجيئها الوحي، تقبله وتعلمه وتنبت بحسب طيب أصلها، وحسن عنصرها‏.‏

وأما القلوب الخبيثة التي لا خير فيها، فإذا جاءها الوحي لم يجد محلا قابلا، بل يجدها غافلة معرضة، أو معارضة، فيكون كالمطر الذي يمر على السباخ والرمال والصخور، فلا يؤثر فيها شيئًا، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا‏}‏ الآيات‏.‏

‏[‏59 ـ 64‏]‏ ‏{‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ‏}

إلى آخر القصة لما ذكر تعالى من أدلة توحيده جملة صالحة، أيد ذلك بذكر ما جرى للأنبياء الداعين إلى توحيده مع أممهم المنكرين لذلك، وكيف أيد اللّه أهل التوحيد، وأهلك من عاندهم ولم يَنْقَدْ لهم، وكيف اتفقت دعوة المرسلين على دين واحد ومعتقد واحد، فقال عن نوح ـ أول المرسلين ـ ‏:‏ ‏{‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ‏}‏ يدعوهم إلى عبادة اللّه وحده، حين كانوا يعبدون الأوثان ‏{‏فَقَالَ‏}‏ لهم‏:‏ ‏{‏يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ‏}‏ أي‏:‏ وحده ‏{‏مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ‏}‏ لأنه الخالق الرازق المدبِّر لجميع الأمور، وما سواه مخلوق مدبَّر، ليس له من الأمر شيء، ثم خوفهم إن لم يطيعوه عذاب اللّه، فقال‏:‏ ‏{‏إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ وهذا من نصحه عليه الصلاة والسلام وشفقته عليهم، حيث خاف عليهم العذاب الأبدي، والشقاء السرمدي، كإخوانه من المرسلين الذين يشفقون على الخلق أعظم من شفقة آبائهم وأمهاتهم، فلما قال لهم هذه المقالة، ردوا عليه أقبح رد‏.‏

{‏قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ‏}‏ أي‏:‏ الرؤساء الأغنياء المتبوعون الذين قد جرت العادة باستكبارهم على الحق، وعدم انقيادهم للرسل، ‏{‏إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ‏}‏ فلم يكفهم ـ قبحهم اللّه ـ أنهم لم ينقادوا له، بل استكبروا عن الانقياد له، وقدحوا فيه أعظم قدح، ونسبوه إلى الضلال، ولم يكتفوا بمجرد الضلال حتى جعلوه ضلالًا مبينا واضحا لكل أحد‏.‏

وهذا من أعظم أنواع المكابرة، التي لا تروج على أضعف الناس عقلا، وإنما هذا الوصف منطبق على قوم نوح، الذين جاءوا إلى أصنام قد صوروها ونحتوها بأيديهم، من الجمادات التي لا تسمع ولا تبصر، ولا تغني عنهم شيئًا، فنزلوها منزلة فاطر السموات، وصرفوا لها ما أمكنهم من أنواع القربات، فلولا أن لهم أذهانا تقوم بها حجة اللّه عليهم لحكم عليهم بأن المجانين أهدى منهم، بل هم أهدى منهم وأعقل، فرد نوح عليهم ردا لطيفا، وترقق لهم لعلهم ينقادون له فقال‏:‏ ‏{‏يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ‏}

{‏يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ‏}‏ أي‏:‏ لست ضالا في مسألة من المسائل بوجه من الوجوه، وإنما أنا هاد مهتد، بل هدايته عليه الصلاة والسلام من جنس هداية إخوانه، أولي العزم من المرسلين، أعلى أنواع الهدايات وأكملها وأتمها، وهي هداية الرسالة التامة الكاملة، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ أي‏:‏ ربي وربكم ورب جميع الخلق، الذي ربى جميع الخلق بأنواع التربية، الذي من أعظم تربيته أن أرسل إلى عباده رسلا تأمرهم بالأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة والعقائد الحسنة وتنهاهم عن أضدادها، ولهذا قال‏:‏

{‏أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ وظيفتي تبليغكم، ببيان توحيده وأوامره ونواهيه، على وجه النصيحة لكم والشفقة عليكم، ‏{‏وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ‏}‏ فالذي يتعين أن تطيعوني وتنقادوا لأمري إن كنتم تعلمون‏.‏

‏{‏أَوَ عَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ‏}‏ أي‏:‏ كيف تعجبون من حالة لا ينبغي العجب منها، وهو أن جاءكم التذكير والموعظة والنصيحة، على يد رجل منكم، تعرفون حقيقته وصدقه وحاله‏؟‏ فهذه الحال من عناية اللّه بكم وبره وإحسانه الذي يتلقى بالقبول والشكر، وقوله‏:‏ ‏{‏لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ لينذركم العذاب الأليم، وتفعلوا الأسباب المنجية من استعمال تقوى اللّه ظاهرا وباطنا، وبذلك تحصل عليهم وتنزل رحمة اللّه الواسعة‏.‏

فلم يفد فيهم، ولا نجح ‏{‏فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ‏}‏ أي‏:‏ السفينة التي أمر اللّه نوحا عليه الصلاة والسلام بصنعتها، وأوحى إليه أن يحمل من كل صنف من الحيوانات، زوجين اثنين وأهله ومن آمن معه، فحملهم فيها ونجاهم اللّه بها‏.‏

{‏وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ‏}‏ عن الهدى، أبصروا الحق، وأراهم اللّه ـ على يد نوح ـ من الآيات البينات، ما بهم يؤمن أولوا الألباب، فسخروا منه، واستهزءوا به وكفروا‏.‏

‏[‏65 ـ 72‏]‏ ‏{‏وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا‏}‏ إلى آخر القصة

أي‏:‏ ‏{‏و‏}‏ أرسلنا ‏{‏إِلَى عَادٍ‏}‏ الأولى، الذين كانوا في أرض اليمن ‏{‏أَخَاهُمْ‏}‏ في النسب ‏{‏هُودًا‏}‏ عليه السلام، يدعوهم إلى التوحيد وينهاهم عن الشرك والطغيان في الأرض‏.‏

فـ ‏{‏قَالَ‏}‏ لهم‏:‏ ‏{‏يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ‏}‏ سخطه وعذابه، إن أقمتم على ما أنتم عليه، فلم يستجيبوا ولا انقادوا‏.‏

فـ ‏{‏قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ‏}‏ رادين لدعوته، قادحين في رأيه‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ‏}‏ أي‏:‏ ما نراك إلا سفيها غير رشيد، ويغلب على ظننا أنك من جملة الكاذبين، وقد انقلبت عليهم الحقيقة، واستحكم عماهم حيث رموا نبيهم عليه السلام بما هم متصفون به، وهو أبعد الناس عنه، فإنهم السفهاء حقا الكاذبون‏.‏

وأي سفه أعظم ممن قابل أحق الحق بالرد والإنكار، وتكبر عن الانقياد للمرشدين والنصحاء، وانقاد قلبه وقالبه لكل شيطان مريد، ووضع العبادة في غير موضعها، فعبد من لا يغني عنه شيئًا من الأشجار والأحجار‏؟‏

وأي‏:‏ كذب أبلغ من كذب من نسب هذه الأمور إلى اللّه تعالى‏؟‏

{‏قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ‏}‏ بوجه من الوجوه، بل هو الرسول المرشد الرشيد، ‏{‏وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ‏}

فالواجب عليكم أن تتلقوا ذلك بالقبول والانقياد وطاعة رب العباد‏.‏

‏{‏أَوَ عَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ كيف تعجبون من أمر لا يتعجب منه، وهو أن اللّه أرسل إليكم رجلا منكم تعرفون أمره، يذكركم بما فيه مصالحكم، ويحثكم على ما فيه النفع لكم، فتعجبتم من ذلك تعجب المنكرين‏.‏

{‏وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ‏}‏ أي‏:‏ واحمدوا ربكم واشكروه، إذ مكن لكم في الأرض، وجعلكم تخلفون الأمم الهالكة الذين كذبوا الرسل، فأهلكهم اللّه وأبقاكم، لينظر كيف تعملون، واحذروا أن تقيموا على التكذيب كما أقاموا، فيصيبكم ما أصابهم، ‏{‏و‏}‏ اذكروا نعمة اللّه عليكم التي خصكم بها، وهي أن ‏{‏زَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً‏}‏ في القوة وكبر الأجسام، وشدة البطش، ‏{‏فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ نعمه الواسعة، وأياديه المتكررة ‏{‏لَعَلَّكُمْ‏}‏ إذا ذكرتموها بشكرها وأداء حقها ‏{‏تُفْلِحُونَ‏}‏ أي‏:‏ تفوزون بالمطلوب، وتنجون من المرهوب، فوعظهم وذكرهم، وأمرهم بالتوحيد، وذكر لهم وصف نفسه، وأنه ناصح أمين، وحذرهم أن يأخذهم اللّه كما أخذ من قبلهم، وذكرهم نعم اللّه عليهم وإدرار الأرزاق إليهم، فلم ينقادوا ولا استجابوا‏.‏

فـ ‏{‏قَالُوا‏}‏ متعجبين من دعوته، ومخبرين له أنهم من المحال أن يطيعوه‏:‏ ‏{‏أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا‏}‏ قبحهم اللّه، جعلوا الأمر الذي هو أوجب الواجبات وأكمل الأمور، من الأمور التي لا يعارضون بها ما وجدوا عليه آباءهم، فقدموا ما عليه الآباء الضالون من الشرك وعبادة الأصنام، على ما دعت إليه الرسل من توحيد اللّه وحده لا شريك له، وكذبوا نبيهم، وقالوا‏:‏ ‏{‏فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ‏}‏ وهذا استفتاح منهم على أنفسهم‏.‏

فقَالَ لهم هود عليه السلام‏:‏ ‏{‏قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ‏}‏ أي‏:‏ لا بد من وقوعه، فإنه قد انعقدت أسبابه، وحان وقت الهلاك‏.‏

{‏أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ‏}‏ أي‏:‏ كيف تجادلون على أمور، لا حقائق لها، وعلى أصنام سميتوها آلهة، وهي لا شيء من الآلهة فيها، ولا مثقال ذرة و ‏{‏مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ‏}‏ فإنها لو كانت صحيحة لأنزل اللّه بها سلطانا، فعدم إنزاله له دليل على بطلانها، فإنه ما من مطلوب ومقصود ـ وخصوصًا الأمور الكبار ـ إلا وقد بين اللّه فيها من الحجج، ما يدل عليها، ومن السلطان، ما لا تخفى معه‏.‏

‏{‏فَانْتَظِرُوا‏}‏ ما يقع بكم من العقاب، الذي وعدتكم به ‏{‏إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ‏}‏ وفرق بين الانتظارين، انتظار من يخشى وقوع العقاب، ومن يرجو من اللّه النصر والثواب، ولهذا فتح اللّه بين الفريقين فقال‏:‏

‏{‏فَأَنْجَيْنَاهُ‏}‏ أي‏:‏ هودا ‏{‏وَالَّذِينَ‏}‏ آمنوا ‏{‏مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا‏}‏ فإنه الذي هداهم للإيمان، وجعل إيمانهم سببا ينالون به رحمته فأنجاهم برحمته، ‏{‏وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا‏}‏ أي‏:‏ استأصلناهم بالعذاب الشديد الذي لم يبق منهم أحدًا، وسلط اللّه عليهم الريح العقيم، ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم، فأهلكوا فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم، فانظر كيف كان عاقبة المنذرين الذين أقيمت عليهم الحجج، فلم ينقادوا لها، وأمروا بالإيمان فلم يؤمنوا فكان عاقبتهم الهلاك، والخزي والفضيحة‏.‏

{‏وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ‏}

وقال هنا ‏{‏وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ‏}‏ بوجه من الوجوه، بل وصفهم التكذيب والعناد، ونعتهم الكبر والفساد‏.‏

‏[‏73 ـ 79‏]‏ ‏{‏وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا‏}‏ إلى آخر قصتهم ‏.‏

أي ‏{‏و‏}‏ أرسلنا ‏{‏إِلَى ثَمُودَ‏}‏ القبيلة المعروفة الذين كانوا يسكنون الحجر وما حوله، من أرض الحجاز وجزيرة العرب، أرسل اللّه إليهم ‏{‏أَخَاهُمْ صَالِحًا‏}‏ نبيا يدعوهم إلى الإيمان والتوحيد، وينهاهم عن الشرك والتنديد، فـ ‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ‏}‏ دعوته عليه الصلاة والسلام من جنس دعوة إخوانه من المرسلين، الأمر بعبادة اللّه، وبيان أنه ليس للعباد إله غير اللّه، ‏{‏قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ‏}‏ أي‏:‏ خارق من خوارق العادات، التي لا تكون إلا آية سماوية لا يقدر الناس عليها، ثم فسرها بقوله‏:‏ ‏{‏هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً‏}‏ أي‏:‏ هذه ناقة شريفة فاضلة لإضافتها إلى اللّه تعالى إضافة تشريف، لكم فيها آية عظيمة‏.‏ وقد ذكر وجه الآية في قوله‏:‏ ‏{‏لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ‏}

وكان عندهم بئر كبيرة، وهي المعروفة ببئر الناقة، يتناوبونها هم والناقة، للناقة يوم تشربها ويشربون اللبن من ضرعها، ولهم يوم يردونها، وتصدر الناقة عنهم‏.‏

وقال لهم نبيهم صالح عليه السلام ‏{‏فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ‏}‏ فلا عليكم من مئونتها شيء، ‏{‏وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ‏}‏ أي‏:‏ بعقر أو غيره، ‏{‏فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}

{‏وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ‏}‏ في الأرض تتمتعون بها وتدركون مطالبكم ‏{‏مِنْ بَعْدِ عَادٍ‏}‏ الذين أهلكهم اللّه، وجعلكم خلفاء من بعدهم، ‏{‏وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ‏}‏ أي‏:‏ مكن لكم فيها، وسهل لكم الأسباب الموصلة إلى ما تريدون وتبتغون ‏{‏تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا‏}‏ أي‏:‏ من الأراضي السهلة التي ليست بجبال، تتخذون فيها القصور العالية والأبنية الحصينة، ‏{‏وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا‏}‏ كما هو مشاهد إلى الآن من أعمالهم التي في الجبال، من المساكن والحجر ونحوها، وهي باقية ما بقيت الجبال، ‏{‏فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ نعمه، وما خولكم من الفضل والرزق والقوة، ‏{‏وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ‏}‏ أي‏:‏ لا تخربوا الأرض بالفساد والمعاصي، فإن المعاصي تدع الديار العامرة بلاقع، وقد أخلت ديارهم منهم، وأبقت مساكنهم موحشة بعدهم‏.‏

{‏قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ‏}‏ أي‏:‏ الرؤساء والأشراف الذين تكبروا عن الحق، ‏{‏لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا‏}‏ ولما كان المستضعفون ليسوا كلهم مؤمنين، قالوا ‏{‏لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ‏}‏ أي‏:‏ أهو صادق أم كاذب‏؟‏‏.‏

فقال المستضعفون‏:‏ ‏{‏إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ‏}‏ من توحيد اللّه والخبر عنه وأمره ونهيه‏.‏

{‏قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ‏}‏ حملهم الكبر أن لا ينقادوا للحق الذي انقاد له الضعفاء‏.‏

‏{‏فَعَقَرُوا النَّاقَةَ‏}‏ التي توعدهم إن مسوها بسوء أن يصيبهم عذاب أليم، ‏{‏وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ‏}‏ أي‏:‏ قسوا عنه، واستكبروا عن أمره الذي من عتا عنه أذاقه العذاب الشديد‏.‏ لا جرم أحل اللّه بهم من النكال ما لم يحل بغيرهم ‏{‏وَقَالُوا‏}‏ مع هذه الأفعال متجرئين على اللّه، معجزين له، غير مبالين بما فعلوا، بل مفتخرين بها‏:‏ ‏{‏يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا‏}‏ إن كنت من الصادقين من العذاب فقال‏:‏ ‏{‏تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ‏}

{‏فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ‏}‏ على ركبهم، قد أبادهم اللّه، وقطع دابرهم‏.‏

‏{‏فَتَوَلَّى عَنْهُمْ‏}‏ صالح عليه السلام حين أحل اللّه بهم العذاب، ‏{‏وَقَالَ‏}‏ مخاطبا لهم توبيخا وعتابا بعدما أهلكهم اللّه‏:‏ ‏{‏يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ جميع ما أرسلني اللّه به إليكم، قد أبلغتكم به وحرصت على هدايتكم، واجتهدت في سلوككم الصراط المستقيم والدين القويم‏.‏ ‏{‏وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ‏}‏ بل رددتم قول النصحاء، وأطعتم كل شيطان رجيم‏.‏

واعلم أن كثيرًا من المفسرين يذكرون في هذه القصة أن الناقة قد خرجت من صخرة صماء ملساء اقترحوها على صالح وأنها تمخضت تمخض الحامل فخرجت الناقة وهم ينظرون وأن لها فصيلا حين عقروها رغى ثلاث رغيات وانفلق له الجبل ودخل فيه وأن صالحا عليه السلام قال لهم‏:‏ آية نزول العذاب بكم، أن تصبحوا في اليوم الأول من الأيام الثلاثة ووجوهكم مصفرة، واليوم الثاني‏:‏ محمرة، والثالث‏:‏ مسودة، فكان كما قال‏.‏

وكل هذا من الإسرائيليات التي لا ينبغي نقلها في تفسير كتاب اللّه، وليس في القرآن ما يدل على شيء منها بوجه من الوجوه، بل لو كانت صحيحة لذكرها اللّه تعالى، لأن فيها من العجائب والعبر والآيات ما لا يهمله تعالى ويدع ذكره، حتى يأتي من طريق من لا يوثق بنقله، بل القرآن يكذب بعض هذه المذكورات، فإن صالحا قال لهم‏:‏ ‏{‏تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ‏}‏ أي‏:‏ تنعموا وتلذذوا بهذا الوقت القصير جدا، فإنه ليس لكم من المتاع واللذة سوى هذا، وأي لذة وتمتع لمن وعدهم نبيهم وقوع العذاب، وذكر لهم وقوع مقدماته، فوقعت يوما فيوما، على وجه يعمهم ويشملهم ‏[‏احمرار وجوههم، واصفرارها واسودادها من العذاب‏]‏

هل هذا إلا مناقض للقرآن، ومضاد له‏؟‏‏"‏‏.‏ فالقرآن فيه الكفاية والهداية عن ما سواه‏.‏

نعم لو صح شيء عن رسول اللّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مما لا يناقض كتاب اللّه، فعلى الرأس والعين، وهو مما أمر القرآن باتباعه ‏{‏وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا‏}‏ وقد تقدم أنه لا يجوز تفسير كتاب اللّه بالأخبار الإسرائيلية، ولو على تجويز الرواية عنهم بالأمور التي لا يجزم بكذبها، فإن معاني كتاب اللّه يقينية، وتلك أمور لا تصدق ولا تكذب، فلا يمكن اتفاقهما‏.‏

‏[‏80 ـ 84‏]‏ ‏{‏وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ‏}‏ إلى آخر القصة‏.‏

أي‏:‏ ‏{‏و‏}‏ اذكر عبدنا ‏{‏لُوطًا‏}‏ عليه الصلاة والسلام، إذ أرسلناه إلى قومه يأمرهم بعبادة اللّه وحده، وينهاهم عن الفاحشة التي ما سبقهم بها أحد من العالمين، فقال‏:‏ ‏{‏أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ‏}‏ أي‏:‏ الخصلة التي بلغت ـ في العظم والشناعة ـ إلى أن استغرقت أنواع الفحش، ‏{‏مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ‏}‏ فكونها فاحشة من أشنع الأشياء، وكونهم ابتدعوها وابتكروها، وسنوها لمن بعدهم، من أشنع ما يكون أيضًا‏.‏

ثم بينها بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ‏}‏ أي‏:‏ كيف تذرون النساء اللاتي خلقهن اللّه لكم، وفيهن المستمتع الموافق للشهوة والفطرة، وتقبلون على أدبار الرجال، التي هي غاية ما يكون في الشناعة والخبث، ومحل تخرج منه الأنتان والأخباث، التي يستحيي من ذكرها فضلا عن ملامستها وقربها، ‏{‏بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ‏}‏ أي‏:‏ متجاوزون لما حده اللّه متجرئون على محارمه‏.‏

{‏وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ‏}‏ أي‏:‏ يتنزهون عن فعل الفاحشة‏.‏ ‏{‏وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ‏}‏‏.‏

{‏فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ‏}‏ أي‏:‏ الباقين المعذبين، أمره اللّه أن يسري بأهله ليلا، فإن العذاب مصبح قومه فسرى بهم، إلا امرأته أصابها ما أصابهم‏.‏

{‏وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا‏}‏ أي‏:‏ حجارة حارة شديدة، من سجيل، وجعل اللّه عاليها سافلها، ‏{‏فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ‏}‏ الهلاك والخزي الدائم‏.‏

‏[‏85 ـ 87‏]‏ ‏{‏وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا‏}‏ ‏.‏‏.‏‏.‏ إلى آخر القصة

أي‏:‏ ‏{‏و‏}‏ أرسلنا إلى القبيلة المعروفة بمدين ‏{‏أَخَاهُمْ‏}‏ في النسب ‏{‏شُعَيْبًا‏}‏ يدعوهم إلى عبادة اللّه وحده لا شريك له، ويأمرهم بإيفاء المكيال والميزان، وأن لا يبخسوا الناس أشياءهم، وأن لا يعثوا في الأرض مفسدين، بالإكثار من عمل المعاصي، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ فإن ترك المعاصي امتثالا لأمر اللّه وتقربا إليه خير، وأنفع للعبد من ارتكابها الموجب لسخط الجبار، وعذاب النار‏.‏

‏{‏وَلَا تَقْعُدُوا‏}‏ للناس ‏{‏بِكُلِّ صِرَاطٍ‏}‏ أي‏:‏ طريق من الطرق التي يكثر سلوكها، تحذرون الناس منها ‏{‏و‏}‏ ‏{‏تُوعَدُونَ‏}‏ من سلكها ‏{‏وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ من أراد الاهتداء به ‏{‏وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا‏}‏ أي‏:‏ تبغون سبيل اللّه تكون معوجة، وتميلونها اتباعا لأهوائكم، وقد كان الواجب عليكم وعلى غيركم الاحترام والتعظيم للسبيل التي نصبها اللّه لعباده ليسلكوها إلى مرضاته ودار كرامته، ورحمهم بها أعظم رحمة، وتصدون لنصرتها والدعوة إليها والذب عنها، لا أن تكونوا أنتم قطاع طريقها، الصادين الناس عنها، فإن هذا كفر لنعمة اللّه ومحادة للّه، وجعل أقوم الطرق وأعدلها مائلة، وتشنعون على من سلكها‏.‏

‏{‏وَاذْكُرُوا‏}‏ نعمة اللّه عليكم ‏{‏إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ نماكم بما أنعم عليكم من الزوجات والنسل، والصحة، وأنه ما ابتلاكم بوباء أو أمراض من الأمراض المقللة لكم، ولا سلط عليكم عدوا يجتاحكم ولا فرقكم في الأرض، بل أنعم عليكم باجتماعكم، وإدرار الأرزاق وكثرة النسل‏.‏

{‏وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ‏}‏ فإنكم لا تجدون في جموعهم إلا الشتات، ولا في ربوعهم إلا الوحشة والانبتات ولم يورثوا ذكرا حسنا، بل أتبعوا في هذه الدنيا لعنة، ويوم القيامة أشد خزيا وفضيحة‏.‏

{‏وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا‏}‏ وهم الجمهور منهم‏.‏ ‏{‏فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ‏}‏ فينصر المحق، ويوقع العقوبة على المبطل‏.‏

‏[‏88 ـ 93‏]‏ ‏{‏قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ‏}‏ وهم الأشراف والكبراء منهم الذين اتبعوا أهواءهم ولهوا بلذاتهم، فلما أتاهم الحق ورأوه غير موافق لأهوائهم الرديئة، ردوه واستكبروا عنه، فقالوا لنبيهم شعيب ومن معه من المؤمنين المستضعفين‏:‏ ‏{‏لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا‏}‏ استعملوا قوتهم السبعية، في مقابلة الحق، ولم يراعوا دينا ولا ذمة ولا حقا، وإنما راعوا واتبعوا آهواءهم وعقولهم السفيهة التي دلتهم على هذا القول الفاسد، فقالوا‏:‏ إما أن ترجع أنت ومن معك إلى ديننا أو لنخرجنكم من قريتنا‏.‏

فـ ‏{‏شعيب‏}‏ عليه الصلاة والسلام كان يدعوهم طامعا في إيمانهم، والآن لم يسلم من شرهم، حتى توعدوه إن لم يتابعهم ـ بالجلاء عن وطنه، الذي هو ومن معه أحق به منهم‏.‏

فـ ‏{‏قَالَ‏}‏ لهم شعيب عليه الصلاة والسلام متعجبا من قولهم‏:‏ ‏{‏أَوَ لَوْ كُنَّا كَارِهِينَ‏}‏ أي‏:‏ أنتابعكم على دينكم وملتكم الباطلة، ولو كنا كارهين لها لعلمنا ببطلانها، فإنما يدعى إليها من له نوع رغبة فيها، أما من يعلن بالنهي عنها، والتشنيع على من اتبعها فكيف يدعى إليها‏؟‏

{‏قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا‏}‏ أي‏:‏ اشهدوا علينا أننا إن عدنا إليها بعد ما نجانا اللّه منها وأنقذنا من شرها، أننا كاذبون مفترون على اللّه الكذب، فإننا نعلم أنه لا أعظم افتراء ممن جعل للّه شريكا، وهو الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لم يتخذ ولدا ولا صاحبة، ولا شريكا في الملك‏.‏

{‏وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا‏}‏ أي‏:‏ يمتنع على مثلنا أن نعود فيها، فإن هذا من المحال، فآيسهم عليه الصلاة والسلام من كونه يوافقهم من وجوه متعددة، من جهة أنهم كارهون لها مبغضون لما هم عليه من الشرك‏.‏ ومن جهة أنه جعل ما هم عليه كذبا، وأشهدهم أنه إن اتبعهم ومن معه فإنهم كاذبون‏.‏

ومنها‏:‏ اعترافهم بمنة اللّه عليهم إذ أنقذهم اللّه منها‏.‏

ومنها‏:‏ أن عودهم فيها ـ بعد ما هداهم اللّه ـ من المحالات، بالنظر إلى حالتهم الراهنة، وما في قلوبهم من تعظيم اللّه تعالى والاعتراف له بالعبودية، وأنه الإله وحده الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له، وأن آلهة المشركين أبطل الباطل، وأمحل المحال‏.‏

وحيث إن اللّه منَّ عليهم بعقول يعرفون بها الحق والباطل، والهدى والضلال‏.‏

وأما من حيث النظر إلى مشيئة اللّه وإرادته النافذة في خلقه، التي لا خروج لأحد عنها، ولو تواترت الأسباب وتوافقت القوى، فإنهم لا يحكمون على أنفسهم أنهم سيفعلون شيئًا أو يتركونه، ولهذا استثنى ‏{‏وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا‏}‏ أي‏:‏ فلا يمكننا ولا غيرنا، الخروج عن مشيئته التابعة لعلمه وحكمته، وقد ‏{‏وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا‏}‏ فيعلم ما يصلح للعباد وما يدبرهم عليه‏.‏ ‏{‏عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا‏}‏ أي‏:‏ اعتمدنا أنه سيثبتنا على الصراط المستقيم، وأن يعصمنا من جميع طرق الجحيم، فإن من توكل على اللّه، كفاه، ويسر له أمر دينه ودنياه‏.‏

{‏رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ‏}‏ أي‏:‏ انصر المظلوم، وصاحب الحق، على الظالم المعاند للحق ‏{‏وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ‏}‏ وفتحه تعالى لعباده نوعان‏:‏ فتح العلم، بتبيين الحق من الباطل، والهدى من الضلال، ومن هو من المستقيمين على الصراط، ممن هو منحرف عنه‏.‏

والنوع الثاني‏:‏ فتحه بالجزاء وإيقاع العقوبة على الظالمين، والنجاة والإكرام للصالحين، فسألوا اللّه أن يفتح بينهم وبين قومهم بالحق والعدل، وأن يريهم من آياته وعبره ما يكون فاصلا بين الفريقين‏.‏

{‏وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ‏}‏ محذرين عن اتباع شعيب، ‏{‏لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ‏}‏ هذا ما سولت لهم أنفسهم أن الخسارة والشقاء في اتباع الرشد والهدى، ولم يدروا أن الخسارة كل الخسارة في لزوم ما هم عليه من الضلال والإضلال، وقد علموا ذلك حين وقع بهم النكال‏.‏

‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ‏}‏ أي‏:‏ الزلزلة الشديدة ‏{‏فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ‏}‏ أي‏:‏ صرعى ميتين هامدين‏.‏

قال تعالى ناعيا حالهم ‏{‏الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا‏}‏ أي‏:‏ كأنهم ما أقاموا في ديارهم، وكأنهم ما تمتعوا في عرصاتها، ولا تفيئوا في ظلالها، ولا غنوا في مسارح أنهارها، ولا أكلوا من ثمار أشجارها، حين فاجأهم العذاب، فنقلهم من مورد اللهو واللعب واللذات، إلى مستقر الحزن والشقاء والعقاب والدركات ولهذا قال‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ‏}‏ أي‏:‏ الخسار محصور فيهم، لأنهم خسروا دينهم وأنفسهم وأهليهم يوم القيامة، ألا ذلك هو الخسران المبين، لا من قالوا لهم‏:‏ ‏{‏لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ‏}

فحين هلكوا تولى عنهم نبيهم شعيب عليه الصلاة والسلام ‏{‏وَقَالَ‏}‏ معاتبا وموبخا ومخاطبا بعد موتهم‏:‏ ‏{‏يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي‏}‏ أي‏:‏ أوصلتها إليكم، وبينتها حتى بلغت منكم أقصى ما يمكن أن تصل إليه، وخالطت أفئدتكم ‏{‏وَنَصَحْتُ لَكُمْ‏}‏ فلم تقبلوا نصحي، ولا انقدتم لإرشادي، بل فسقتم وطغيتم‏.‏

{‏فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ‏}‏ أي‏:‏ فكيف أحزن على قوم لا خير فيهم، أتاهم الخير فردوه ولم يقبلوه ولا يليق بهم إلا الشر، فهؤلاء غير حقيقين أن يحزن عليهم، بل يفرح بإهلاكهم ومحقهم‏.‏ فعياذا بك اللهم من الخزي والفضيحة، وأي‏:‏ شقاء وعقوبة أبلغ من أن يصلوا إلى حالة يتبرأ منهم أنصح الخلق لهم‏؟‏‏.‏

‏[‏94 ـ 95‏]‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ‏}

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ‏}‏ يدعوهم إلى عبادة اللّه، وينهاهم عن ما هم فيه من الشر، فلم ينقادوا له‏:‏ إلا ابتلاهم الله ‏{‏بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ‏}‏ أي‏:‏ بالفقر والمرض وأنواع البلايا ‏{‏لَعَلَّهُمْ‏}‏ إذا أصابتهم، أخضعت نفوسهم فتضرعوا إلى الله واستكانوا للحق‏.‏

‏{‏ثُمَّ‏}‏ إذا لم يفد فيهم، واستمر استكبارهم، وازداد طغيانهم‏.‏

{‏بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ‏}‏ فَأدَرَّ عليهم الأرزاق، وعافى أبدًانهم، ورفع عنهم البلاء ‏{‏حَتَّى عَفَوْا‏}‏ أي‏:‏ كثروا، وكثرت أرزاقهم وانبسطوا في نعمة اللّه وفضله، ونسوا ما مر عليهم من البلاء‏.‏ ‏{‏وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ‏}‏ أي‏:‏ هذه عادة جارية لم تزل موجودة في الأولين واللاحقين، تارة يكونون في سراء وتارة في ضراء، وتارة في فرح، ومرة في ترح، على حسب تقلبات الزمان وتداول الأيام، وحسبوا أنها ليست للموعظة والتذكير، ولا للاستدراج والنكير حتى إذا اغتبطوا، وفرحوا بما أوتوا، وكانت الدنيا، أسر ما كانت إليهم، أخذناهم بالعذاب ‏{‏بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا يخطر لهم الهلاك على بال، وظنوا أنهم قادرون على ما آتاهم اللّه، وأنهم غير زائلين ولا منتقلين عنه‏.‏

‏[‏96 ـ 99‏]‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ‏}‏

لما ذكر تعالى أن المكذبين للرسل يبتلون بالضراء موعظة وإنذارا، وبالسراء استدراجًا ومكرًا، ذكر أن أهل القرى، لو آمنوا بقلوبهم إيمانا صادقًا صدقته الأعمال، واستعملوا تقوى اللّه تعالى ظاهرًا وباطنا بترك جميع ما حرم اللّه، لفتح عليهم بركات السماء والأرض، فأرسل السماء عليهم مدرارًا، وأنبت لهم من الأرض ما به يعيشون وتعيش بهائمهم، في أخصب عيش وأغزر رزق، من غير عناء ولا تعب، ولا كد ولا نصب، ولكنهم لم يؤمنوا ويتقوا ‏{‏فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ‏}‏ بالعقوبات والبلايا ونزع البركات، وكثرة الآفات، وهي بعض جزاء أعمالهم، وإلا فلو آخذهم بجميع ما كسبوا، ما ترك عليها من دابة‏.‏ ‏{‏ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}

{‏أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى‏}‏ أي‏:‏ المكذبة، بقرينة السياق ‏{‏أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا‏}‏ أي‏:‏ عذابنا الشديد ‏{‏بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ‏}‏ أي‏:‏ في غفلتهم، وغرتهم وراحتهم‏.‏

{‏أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ‏}‏ أي‏:‏ أي شيء يؤمنهم من ذلك، وهم قد فعلوا أسبابه، وارتكبوا من الجرائم العظيمة، ما يوجب بعضه الهلاك‏؟‏‏!‏

{‏أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ‏}‏ حيث يستدرجهم من حيث لا يعلمون، ويملي لهم، إن كيده متين، ‏{‏فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ‏}‏ فإن من أمن من عذاب اللّه، فهو لم يصدق بالجزاء على الأعمال، ولا آمن بالرسل حقيقة الإيمان‏.‏

وهذه الآية الكريمة فيها من التخويف البليغ، على أن العبد لا ينبغي له أن يكون آمنا على ما معه من الإيمان‏.‏

بل لا يزال خائفا وجلا أن يبتلى ببلية تسلب ما معه من الإيمان، وأن لا يزال داعيا بقوله‏:‏ ‏{‏يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك‏}‏ وأن يعمل ويسعى، في كل سبب يخلصه من الشر، عند وقوع الفتن، فإن العبد ـ ولو بلغت به الحال ما بلغت ـ فليس على يقين من السلامة‏.‏

‏[‏100 ـ 102‏]‏ ‏{‏أَوَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ * وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ‏}‏

يقول تعالى منبها للأمم الغابرين بعد هلاك الأمم الغابرين ‏{‏أَوَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ أو لم يتبين ويتضح للأمم الذين ورثوا الأرض، بعد إهلاك من قبلهم بذنوبهم، ثم عملوا كأعمال أولئك المهلكين‏؟‏‏.‏

أو لم يهتدوا أن اللّه، لو شاء لأصابهم بذنوبهم، فإن هذه سنته في الأولين والآخرين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ‏}‏ أي‏:‏ إذا نبههم اللّه فلم ينتبهوا، وذكرهم فلم يتذكروا، وهداهم بالآيات والعبر فلم يهتدوا، فإن اللّه تعالى يعاقبهم ويطبع على قلوبهم، فيعلوها الران والدنس، حتى يختم عليها، فلا يدخلها حق، ولا يصل إليها خير، ولا يسمعون ما ينفعهم، وإنما يسمعون ما به تقوم الحجة عليهم‏.‏

‏{‏تِلْكَ الْقُرَى‏}‏ الذين تقدم ذكرهم ‏{‏نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا‏}‏ ما يحصل به عبرة للمعتبرين، وازدجار للظالمين، وموعظة للمتقين‏.‏

{‏وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ‏}‏ أي‏:‏ ولقد جاءت هؤلاء المكذبين رسلهم تدعوهم إلى ما فيه سعادتهم، وأيدهم اللّه بالمعجزات الظاهرة، والبينات المبينات للحق بيانا كاملًا، ولكنهم لم يفدهم هذا، ولا أغنى عنهم شيئًا، ‏{‏فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ‏}‏ أي‏:‏ بسبب تكذيبهم وردهم الحق أول مرة، ما كان ليهديهم للإيمان، جزاء لهم على ردهم الحق، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ‏}‏ ‏{‏كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ‏}‏ عقوبة منه‏.‏ وما ظلمهم اللّه ولكنهم ظلموا أنفسهم‏.‏

{‏وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ‏}‏ أي‏:‏ وما وجدنا لأكثر الأمم الذين أرسل اللّه إليهم الرسل من عهد، أي‏:‏ من ثبات والتزام لوصية اللّه التي أوصى بها جميع العالمين، ولا انقادوا لأوامره التي ساقها إليهم على ألسنة رسله‏.‏

{‏وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ‏}‏ أي‏:‏ خارجين عن طاعة اللّه، متبعين لأهوائهم بغير هدى من اللّه، فاللّه تعالى امتحن العباد بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وأمرهم باتباع عهده وهداه، فلم يمتثل لأمره إلا القليل من الناس، الذين سبقت لهم من اللّه، سابقة السعادة‏.‏

وأما أكثر الخلق فأعرضوا عن الهدى، واستكبروا عما جاءت به الرسل، فأحل اللّه بهم من عقوباته المتنوعة ما أحل‏.‏